دمشق الجديدة- تحديات الإدارة، شروط واشنطن، ومستقبل سوريا

ممّا يُحسب للقائد العام للإدارة السورية المستحدثة، أحمد الشرع، هو تقديره العميق و إدراكه الحصيف للموقف الأمريكي قبل إقدامه على أي تحرك لقيادة الفصائل المسلحة من إدلب. لقد كان يعلم بدقة متناهية اللحظة المناسبة للتحرك، وكيفيته، ومكانه. ومع ذلك، لم يتوقع أحد الانهيار المتسارع لنظام الأسد، والذي بلغ ذروته بسقوطه المدوي في دمشق، المدينة التي دخلتها الفصائل بقيادة هيئة تحرير الشام.
لقد استشعر الشرع إشارات قوية تدعم تحركه، وتشكل غطاءً غربيًا متينًا له، طالما أنه يتحرك في الإطار الذي رسمه المجتمع الدولي بقيادة واشنطن للمنطقة، ألا وهو "إخراج إيران من سوريا". وبغض النظر عن التوقعات، أصبحت هيئة تحرير الشام هي السلطة الحاكمة في دمشق، وعاد أبو محمد الجولاني إلى اسمه الحقيقي "أحمد الشرع"، الذي يستقبله المسؤولون الأمريكيون ويتباحثون معه حول مستقبل سوريا الجديد.
ماذا عن التصنيف على قوائم الإرهاب؟
من المرجح أن يكون رفع اسم الهيئة وزعيمها من على قوائم الإرهاب أحد أهم الأدوات التفاوضية التي ستستخدمها واشنطن لضمان التزام الإدارة الجديدة في دمشق بسياساتها في المنطقة.
لكن هذا الأمر قد يستغرق بعض الوقت، حيث يمكن للدبلوماسية الأمريكية إجراء اللقاءات والتفاعل السياسي مع السلطة القائمة بدلًا من التعامل المباشر مع الهيئة. والنموذج الفلسطيني خير مثال على ذلك، حيث ظلت منظمة التحرير الفلسطينية تطالب الولايات المتحدة برفعها من على قوائم الإرهاب حتى عام 2022، على الرغم من أنها كانت تمارس سلطتها في الضفة الغربية وقطاع غزة ولها تمثيل في المؤسسات الدولية.
الابتزاز برفع العقوبات
لا تقتصر أوراق التفاوض، أو بالأحرى أوراق الضغط، على مسألة رفع التصنيف، بل إن النفوذ الأكبر للغرب عمومًا، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، سينطلق على الأرجح من ملف العقوبات المفروضة، ليس على الأفراد فحسب، بل أيضًا على القطاعات المختلفة، بما في ذلك مؤسسات الدولة وبنوكها.
تتعامل العواصم الغربية مع هذه الأمور وفق مبدأ التحكم عن بعد الفعال، كما هو الحال في العراق، الذي سقط نظامه الذي عوقب منذ عام 2003. ومع ذلك، لا تزال العقوبات أداة واشنطن الرادعة والضابطة لإبقاء الحكومات المتعاقبة في بغداد تحت رحمة تمرير الأموال نقدًا، والتي قد تتأخر أو تنقطع إذا أرادت الإدارة الأمريكية التنبيه أو العقاب.
ماذا تريد الإدارة الأميركية من الإدارة في دمشق؟
هناك باقة واسعة من الشروط المعلنة التي ستظل قيد التفاوض والنقاش بين الغرب والإدارة الجديدة في دمشق. تتضمن هذه الشروط حماية الأقليات الدينية والطائفية والإثنية، وضمان حقوقهم، وإشراك جميع المكونات والشرائح في حكم سوريا، وعدم اضطهاد المرأة وحماية حقوقها، وتوفير الحريات واحترامها.
إلا أن هذه الشروط قد تبدو شكلية، في حين توجد شروط أخرى أكثر أهمية وحساسية، وهي محل اختبار للدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، للإدارة الجديدة في دمشق، ويمكن تلخيص هذه الشروط فيما يلي:
إيران لن تعود إلى سوريا
لم تخفِ واشنطن أن إدارة العمليات العسكرية قد حققت نجاحًا ملحوظًا في إخراج إيران من سوريا، وأكدت أنها ستعمل مع أي إدارة سورية قادمة تضمن عدم عودة إيران، ليس فقط على صعيد النفوذ العسكري والأمني، بل أيضًا على الصعيد السياسي والاقتصادي، أو أي شكل من أشكال التمدد في المنطقة، وذلك بهدف إنهاء جغرافيا واسعة كان يمتد بها ما يسمى بـ "محور المقاومة والممانعة".
العلاقة مع إسرائيل
من غير المتوقع أن تقبل واشنطن وحلفاؤها من النظام الجديد في دمشق ما كانت تقبله من نظام الرئيس السابق بشار الأسد تجاه إسرائيل. لكن الوضع بات أكثر تعقيدًا مع توسع الجيش الإسرائيلي وسيطرته على مناطق جديدة في جنوب سوريا، ضمن المنطقة منزوعة السلاح وفقًا لاتفاقية 1974، وفي مناطق تجاوزت فيها إسرائيل هذه المنطقة إلى قرى وبلدات أخرى.
وقد أعلن الشرع من دمشق موقفًا سريعًا وواضحًا مفاده أن سوريا لن تتجه إلى أي مواجهة مع دول الجوار، أو مع أي جهة أخرى، فضلًا عن عدم قدرتها على ذلك، خاصة بعد أن دمر الجيش الإسرائيلي معظم القدرات العسكرية السورية، مما جعل سوريا عمليًا دولة منزوعة السلاح. ومع ذلك، تؤكد رسائل الجيش الإسرائيلي ونتنياهو من قمة جبل الشيخ أن إسرائيل لن تنسحب في وقت قريب من المناطق التي سيطرت عليها بالتزامن مع سقوط نظام الأسد.
هذا الأمر سيزيد من تعقيد العلاقة بين الإدارة الجديدة في دمشق وتل أبيب، بالإضافة إلى ملفات أخرى قد تساهم أيضًا في تعقيد العلاقة، مثل العلاقة بين السلطة الحاكمة في دمشق وبين القوى الإقليمية في المنطقة، وعلى رأسها تركيا.
السلاح الكيماوي
في سياق متصل بأمن إسرائيل وأمن المصالح الغربية في المنطقة، ستعمل واشنطن، وبدعم من تل أبيب، على ضمان تعاون السلطة الحاكمة في دمشق في تسليم جميع الأسلحة الكيماوية لإتلافها، وهو الأمر الذي طالما تهرب منه النظام السابق، وظل يشكل هاجسًا كبيرًا لإسرائيل.
صحيح أن الجيش الإسرائيلي قد دمر البنية العسكرية لسوريا، إلا أنه يُعتقد أن المخزون الكيماوي يشكل خطرًا كبيرًا ويتطلب التخلص منه بطريقة آمنة وموثوقة، وليس كما يتم التخلص من باقي أنواع الأسلحة التي دمرتها إسرائيل في مستودعاتها. لذلك، لا بد من تعاون جاد وحقيقي من الإدارة الجديدة في هذا الملف، وهو الأمر الذي تتوقع الولايات المتحدة متابعته عن كثب، وأن تبدي فيه الإدارة الجديدة مرونة عالية.
اختبار القدرة على فرض الاستقرار
لقد تعاملت واشنطن مع الملف السوري على مدى عقد من الزمن من منظور المصالح الإسرائيلية وتأثير تل أبيب على القرار الأمريكي في الشأن السوري، والذي كان يهدف إلى إيجاد توازن هش بين الأطراف المتنازعة في سوريا، يتفاعلون ضمن صراع مضبوط ومتحكم به.
أما الآن، وبعد هذا التغيير الجذري الذي ستمتد تداعياته على منطقة الشرق الأوسط بأكملها، فإن إدارة ترامب تتجه نحو حل النزاعات في العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشرق أوروبا. وقد يتطلب ذلك بعض الفوضى المنظمة للوصول إلى طاولة المفاوضات التي تثمر حلولًا للنزاعات وتضمن الاستقرار، ولكن الهدف النهائي هو وقف الحروب.
في الشرق الأوسط، توجد فرص وافرة للاستثمار في تحقيق الهدوء والاستقرار، والموقع الجيوسياسي لسوريا يجعل دمشق محورًا هامًا يجب أن تتمكن إدارتها من ضبط الحكم، بما يتوافق مع توجهات المصالح الأمريكية ومصالح حلفائها في المنطقة.